مذكّرات من دفتر مسروق.. ليالي السجن الأولى

*في أحد الأيّام وأثناء انتقالي إلى قاعة المحكمة في رحلة تستغرق ثلاثة أيّام ذهاباً وإياباً عبر البوسطة(1)، قام جندي من قوات النحشون(2) بسرقة دفتر مذكّراتي بذريعة فحص ما كُتب فيه. هذه نصوص مقتطعة من ذاكرة الدفتر المسروق*

القمحُ مرٌ في حقول الآخرينْ

والماءُ مالحْ.. والغيم فولاذ

وهذا النجمُ جارحْ “

أجثو على ركبتيّ ويداي خلف ظهري، كان أحد الأسرى قد فرش الأرض ببطانيّة وطلب منّا الجلوس عليها، لم أفهم إلا حين فتح الباب أحد الجنود وصرخ في وجوهنا “عدد يا شباب” بلغة عربية ركيكة. كنّا مجرّد أربعة وحين شاهدتهم ينزلون واحداً تلو الآخر فهمت ما يجري، يريدون التأكّد على الأغلب أن أحدنا لم يهرب أو ينتحر، حسناً، على الأقل إن كنت أفكّر في الهروب أو الانتحار فلن أفعل ذلك الليلة، ليس بعد رحلةٍ دامت لساعاتٍ وأنا مغمّى العينين في جيب عسكري يحاكي في حرارته جهنّم.

شرد ذهني بعيداً حين وجدت نفسي في تلك الوضعيّة المهينة. كيف يحدث هذا، والآن تحديداً؟ أن أكون في آخر مكان من المفترض أن أكون فيه هذه الليلة بالذات. أحاول تجنّب التفكير في الأمر كثيراً، عليّ الخروج من حالتي هذه والاستعداد لما هو أسوأ، وهذا يتطلّب التخلّي عن كل الأسئلة التي تتعلّق بالخارج وأن ألتزم بما هو في الداخل فحسب.

كانت تجربتي حين عرفتُ أشخاصاً تعرّضوا للاعتقال سابقاً غير مبشّرة، فالحقيقة أنّ المرء يكون موضع اهتمام من هم في الخارج لفترة محدودة، وبعدها سيبقى كلٌّ في مكانه، ومن هو داخل السجن يبقى هناك، ينتمي إلى عالم لا نعرف عنه شيئاً، وقوانين تحكم مكانه وزمانه تختلف عن تلك التي في الخارج وإن حاول أحدٌ شرحها لنا لن نفهمها وسنتجاوب معها ببضع همهمات تضامنيّة. وعليه، كان لا بدّ لي من الالتزام بأوّل قاعدة اعتقدت أنها ستساعدني على النجاة: اترك الخارج وشأنه، وفكّر في ما هو في الداخل.

“أبو الشباب.. ركز يخوي الله يرضى عليك” سرقتني الكلمات من أفكاري حين هزّني أحد الأسرى بيده، كان الجنود ويتقدّمهم شخص بلا سلاح ينظرون إليّ جميعهم، لم أفهم حتى تكلّم زعيمهم سائلاً ما اسمي. لم يمض على وجودي ساعة و يسألني عن اسمي، وكأنه ليس مدونناً لديه وأصبح بحلول الآن يعرف شجرة عائلتي.

أجبته دون أن أنظر إلى وجهه. كتب بضع كلمات على ورقة بين يديه يقلّبها مع كل اسم جديد، لا أتخيّله يقوم بأمر هام على أيّ مقياس، كل ما يحدث شكليّ ولا قيمة له، كله مجاز للاستعباد. رفع رأسه ووجّه لي سؤالا آخر “كُل بسيدر؟”. التفت حولي كي اتأكد ان كانوا قد سمعوا ما سمعته. نعم لقد سألني للتو إذا ما كانت الأمور على ما يرام. لم أفهم سؤاله إلا في إطار المزيد من الإذلال، “كل بسيدر؟”.

كنت أشعر بغبار “الولجة” تحت أقدّام المشيّعين في أنفي، وأكاد أسمع أصواتهم مكبّرين وهاتفين بالموت للاحتلال وأعوانه. أشعر بالحرمان، أكاد امتطي درباً أضيع فيه، بين حزني لتفويت فرصة الوداع الأخير وبين تفكيري بأيّ نوع من الأسلحة يلزمني الآن. رأسي الآن فوق سيخ من حديد، معلّق دون أن يلمس فتنة انتظرها طويلاً.

الأُمور مش بسيدر يا ابن الحرام. وبينما أكون مضطراً للإجابة عن أسئلتك السخيفة، هنا في هذا المكان غير البعيد عن موضع دفن باسل الأعرج، فإن الآخرين ينعمون في هذه اللحظات بنظرة أخيرة للياقوت. أفهم ما يبدو عليه شكلي بالنسبة لرفاق الزنزانة، شابٌ يعاني من صدمة حقيقية فصار على أثرها أقل استيعاباً لما يجري من حوله. والحقيقة أني كنتُ أفهم، ولكن كلّ ما في الأمر أنني لستُ أصدّق. دعوت نفسي ببطء إلى استنهاض شيء من أعماقي، يتضخّم، بين أنقاض هزيمتي هذه.

SHIKMA_c

“وأهديكم ضيا عينيّ ودفء القلب أعطيكم”

صدى الأفلام أقوى من مكبر صوت أحياناً، قليلة هي المرات التي وجدت نفسي فيها أعيش لحظة سينمائيّة، خصوصاً في مواقف كانت حرجة أحياناً وقاسية في أحيان أخرى، أعني تلك الأحداث التي كنت أظن غالباً أنها لا تحدث إلّا للآخرين. وها أنا الآن، كما لم أتوقّع من قبل، في فيلم غرائبي لم أتحوّل فيه إلى شخصيّة رئيسيّة بعد.

كنت أتوقّع أنني على مقربة من غزّة. المسافة التي قطعها الجيب العسكري كانت طويلة للغاية، ومليئة بالمنعطفات وفتح وإغلاق للشبابيك وكلام باللغة العبرية لم أفهم منه إلا كلمة “أسير”. هذا هو الوضع الجديد إذاً، أسير. وبملابس الأسرى البنيّة، بالطبع لم أستطع رؤية كيف تبدو عليّ هذه الملابس ولكني أستطيع رؤيتها على الآخرين، قبيحة ومشوّهة.

لم أستسغ اللون البنيّ في حياتي قط. اعتبرته ميلاداً مشوّهاً من اللون الأسود. لكن عليّ تذكير نفسي الآن بطبيعة القوانين المختلفة هنا والتي قد تصل إلى درجة تجعل ما كنت أكرهه سابقاً محبباً إلى قلبي، خصوصاً وأنا بين رفاق لا يجمع بيني وبينهم سوى هذا اللون.

هنا في هذا “العالم الموازي” تتغيّر نفسيات الرجال، ويصبح قيام اثنين منهم بضرب بعضهم البعض في خلاف حول حبّة طماطم أمراً واردا. وفيما تتحول أحاديث الأسرى إلى استعراض أي سجن أفضل من غيره، تدرك في لمح البصر بأنّ ثقباً قد ابتلعك. “في عوفر الحياة أفضل من هنا، ندخل قسم 14 ونمكث اسبوعاً أو اثنين ثم يتم فرزنا” قالها فتى لم يتجاوز عشرين عاماً وكأنه عاش هناك نصف عمره. هذا ينتمي إلى حماس، وذاك يفضّل الجبهة الشعبيّة، أما البدوي الجالس في زاوية الغرفة لم يقرر بعد، فتبدأ حربٌ بين حمساوي وفتحاوي في محاولة لاستمالة الرجل. “عند فتح بتنبسط.. ما في قوانين بتصحى وقت ما بدك وبتنام وقت ما بدك”. يرد عليه الآخر “ولا عمرها كانت الفوضى منيحة، تعال عندنا في اكل زاكي” يقول الحمساوي.

ليس من المتوقّع بالنسبة لي أن أكون على درجة عالية من الاندماج مع الغرباء، أن تجد نفسك محاطاً بهذه المجموعة المختلفة من الأشخاص، كل منهم أتى من خلفيّة فكرية واجتماعيّة مختلفة، ووجدوا أنفسهم هكذا بلا مقدّمات مضطّرين للتعامل مع بعضهم البعض، جاهلاً تاريخهم ودوافعهم وطريقة تفكيرهم وحتى أهدافهم، أفكّر في هذا وأنا أتذكّر مقتطفات كنت قد قرأتها للأسير وليد دقّة حين نقل ما يشعر به أحد الأسرى “كنّا زمان مع بعض.. لكن اليوم صرنا على بعض”.(3)

أحاول تجنّب الضوء الأصفر الساطع في الغرفة والذي يرفض السجّان إطفائه. أراقب تحايل السجناء على هذا الأمر بأن يقوم من ينام فيهم في الطابق السفلي من الأسرّة بتعليق أقمشة على الحواف تحجب عنهم هذا الضوء وتجعل من أسرّتهم أماكن معزولة بصرياً عن ما حولها. كنت مرهقاً إلى الحدّ الذي منعني من تقليدهم، ومع بعض الأسئلة الغريبة و الموغلة بالخصوصية حول سبب وجودي هنا ألقاها عليّ أحد الأسرى قررت ان التزم الصمت حتّى لا أتفوه بما قد أندم عليه، وإذا ما تكلّمت فعليّ الالتزام بالقاعدة الثانية التي أضعها لنفسي هذه الليلة؛ إكذب متى استطعت.

“ارسملك سمكة عالحيط؟”

كان “عليّ”، أحد الأسرى الذين تعرفت عليهم، رجل في بداية الأربعينيات من عمره، عمل ممرضاً في عدد من المستشفيات قبل أن يتحوّل إلى سائق إسعاف. كرهت طريقته في الكلام وأسلوبه في فرض الحوار وعدم جدوى مواضيعه وحبّه للعب دور الزعيم، لكن لاحقاً، أصبحنا رفيقين حقيقيين. وكلّما شعرنا بالملل، صرنا نضحك على الليلة التي وجد نفسه فيها نائماً بجانب جثّة في مشرحة احد المشافي كما روى لي.

“شباب بدكم إشي من برا؟” قالها علي بعد أن نهض من مكانه ووضع كلتا يديه بوضعية مستندة على أسفل ظهره. سألته مباشرة “وين رايح؟” وعلى شفتي انحناءة خفيفة عبرت فيها عن إعجابي لكسره حالة الصمت القاتلة التي سلبتنا من المكان فوق سلب المكان لنا. “نازل على البلد بدي اجيب شوية اغراض للسهرة” بنبرة واثقة أعلن علي بجملته هذه دعوة خفيفة للتواطؤ على قلب الواقع، ببساطة، راقني الأمر وقررت المشاركة، ولم يستغرق التفكير وقتاً طويلاً حتى قلت “هاتلي علبة كولا ساقعة معاك”.

“هاد اللي بدك ياه؟ كولا؟” ردّ مع ارتخاء في جفونه وكأنّه لم يتوقّع طلباً كهذا.

– “والله برّا ما كنت اشربها يا علي بس هلقيت مشتهيها”.

– “من عيوني، إذا بدك اشي تاني رن علي قبل ما أرجع”.

يتحرّك علي باتجاه الحمّام، يدخل ويغلق الباب من خلفه، بعد دقيقة نسمع صوت المياه المتدفقة، ونشم رائحة لن تغادر الغرفة حتى اليوم التالي.

“ماذا نودّع غير هذا السجن؟

ماذا يخسر السجناء؟”(4)

هذه الريح التي أحرقت مراكبي واقتلعت كلّ شيء كانت قد بدأت في مقهى وسط رام الله. وحين أتكلّم عن “كلّ شيء” فأنا أقصد الأيام العشرة الأخيرة وما تبعها. كنت على علم بأننا سنستلم جثمان الشهيد في أي وقت وأن الأمر برمته صار مسألة انتقام شخصي- انتقام من المدينة التي لم تعد كما هي حين فارقها باسل الأعرج، والذي كان رحيله بالنسبة لي هو انهيار حجر الزاوية في علاقتي مع المكان. بعد تراكمات من سوء العشرة، ولّدت كلها رغبة بالاشتباك معها تُرجمت فعلياً إلى حركة في شوارعها رافضاً هذا الشيء الغامض الذي كان يربطني بالمكان فيحد من حماستي للهروب.

على مقربة من مكان استشهاد باسل الأعرج كان المقهى الذي التقيته فيه أوّل مرّة، وهو المكان الذي عرفت فيه انني امام شخص استثنائي، أجد الآن صعوبة بالغة في الحديث عن علاقتي معه ولكنني أتذكّر ذلك المقهى جيداً لأن حدثاً آخر كان قد شهد عليه. قبل أسبوعين من الآن أخبرت أحد الشباب بسرّ يلخّص شعوري تجاه رام الله، أخبرته أنني “أتمنى تجربة السجن”، دون أدنى توقّع بأنّ الله، من بين كل الأماني، سيستجيب لهذه بالذات!

ضحك الشاب وأخبرني أن وضع السجون اليوم سيء للغاية “صدّقني لا تودّ التواجد هناك، لكن لماذا تتمنى شيئاً كهذا؟” قلت: أعتقد أن السجن على الرغم من كونه يقّيد حركة الإنسان ويحاصره ولكنه يحرره في الوقت ذاته من كل الأمور التي كان يعتقد بأنها تعني له شيئاً هاماً بينما تكون قيمتها أقل مما اعتقد بكثير. تمنح تجربة السجن الوقت والصفاء الكافيين لإعادة تقييم تجربته بمعزل عن مؤثراتها الخارجية. يحرر السجن قاطنيه من الأمور التي اعتقدوا أنهم يملكونها فباتت تملكهم.  

الحديث عن الذاكرة (أو ما أتذكّره) يرهقني الآن، وفي هذه اللحظة أشعر بالأسى لهذا الاكتشاف المتأخّر، كنت أعتقد حتى وقت قريب أنني أتمتّع بذاكرة جيدة، لكنني الآن وبينما أحاول منذ نحو ساعة تذكّر كلمات إحدى الأغاني التي أحب سماعها ولا أستطيع حتى تذكّر لحنها، أشعر عملياً بأنني مسجون منذ فترة بعيدة.

IMG_6069.JPG
باسل الأعرج في لقائنا قبل الأخير

“يا محمّلين العنب..

تحت العنب تفّاح”

كانت الساعة تقارب منتصف الليل حين بدأ أحد المساجد القريبة بإذاعة نبأ ما، نهضت مسرعاً من فراشي المليء ببطانيات خشنة لم تُغسل منذ افتتاح هذا المُعتقل، والتصقت بباب الغرفة محاولاً سماع الصوت القادم من إذاعة المسجد. لم أفهم كنه ما يقول ولكن من نبرته الغاضبة علمت أن أمراً كبيراً قد حدث، لا بدّ وأنّه يذيع نبأ شهيد جديد. في اليوم التالي عرفت بأن أقرب منطقة عربيّة لنا هي مخيّم العرّوب، وأن الشهيد -إن صدق التوقّع- من أبناء المخيّم. بعد أربعة أيّام ينضم إلى الزنزانة شاب من مخيّم العرّوب، كان أوّل ما تحدّث عنه هو استشهاد صديقه قبل أيّام بعد أن خرج المخيّم في مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال على اثر دفن الشهيد باسل الأعرج.

  • هل ذهبت للجنازة؟

  • نعم ذهبت.

أحاول أن لا أبدو مهتماً أكثر مما ينبغي فلا أدري أيّ خطورة قد تأتي من وراء كشف معلومات لا داعي لها الآن.

  • كانت حاشدة؟

  • جداً.

أقنع نفسي بضرورة التوقف عن طرح الأسئلة عن الجنازة وباسل الأعرج وأن أترك البقية كي يقودوا الحديث كي لا أقع في فخ ما.

  • “كم واحد تقريباً؟” عدت لأسأل بعد جولتين زرعتها أقدامي في الغرفة ذهاباً وإياباً.

  • كانوا أكثر من 15 ألفاً.

  • وهل حدث شيء غير متوقع؟

  • لا. كانت جنازة جميلة جداً وسنحت لي الفرصة بحمل النعش.

  • أنت؟ حملت النعش؟!

  • نعم!

  • هل كنت تعرف الشهيد شخصياً؟

  • لا.. ولكنني أحببته.

 

“إذا احبّ الله عبدا ابتلاه”

غادرتني المفاجأة منذ فترة بعيدة. لم يعد يدهشني أيّ شيء. صرت أعرف اللحظة التي سيعاود فيها الله الاتصال بي مجدداً عبر أحد طرقه. ويوم اعتقلت من على حاجز الكونتينر قرب مدينة بيت لحم صبيحة يوم الجمعة 17 مارس 2017 لم أشعر بأيّ داع للشعور بالصدمة رغم أنها كانت المرّة الأولى لي في تعامل مباشر وبهذا القرب مع جنود الاحتلال. كل ما فكرت فيه هو سوء التوقيت فحسب (أو أنّه التوقيت المناسب بالضبط؟) بقيت لفترة طويلة في حالة أسر لتلك اللحظة تحديداً، تجمّد الزمن عندي هناك، ولازلت حتى بعد مرور 14 يوماً داخل السجن أنتظر تسليم الجثمان.

شعرت في الأيّام التي سبقت هذا الحدث بأنني موشك على أمر كبير، كنت أتوقع بشكل جدّي أنني قد أموت، كان فنائي جليّاً أمامي ولم أشعر برهبة قط. انعكس هذا على طريقة تعاملي مع من كانوا حولي حتى أن أحدهم أسرّ لي ذات يوم أنني أتصرّف كـ “مودِّع”.

لكن ماذا يقول الواحد؟ مازلتُ حياً أرزق، وأتمتّع بامتيازات كبيرة، فمثلاً، هنا الطعام والشراب مجاني بل والبيات كذلك، كما تتمتع بحراسة عالية المستوى على الأبواب، من لا يتمنى ذلك! نكتشف الحقيقة دوماً في تلك الأماكن التي نستبعدها منذ البداية، نحيّدها ولا نتوقّع منها أي جديد يدهشنا. وفي السجن بدلا من الشعور بالعجز، وهو الشبح المسيطر دائما إلى جانب لعنة الانتظار، كنت أتخيّل نفسي أحد موظفي شركة جوجل المرموقين، تحصل بشكل مجاني على غرفة مجهزة بكل شيء ولا يُطلب منك في المقابل سوى التفكير. التفكير بماذا؟ بكل شيء تقريباً. وفي اللحظة التي لا أفكّر فيها أجدني أدخّن السجائر، وأبقى منتقلاً بين هاتين الحالتين بصورة دوريّة صانعاً دائرة مفرغة لكنها لا تزال تدهشني في كمّ الأشياء التي تساعدني على اكتشافها في ذاتي.

وُضعتُ في غرفة للحبس الانفرادي لمدّة يوم واحد؛ كان الأسوأ على الإطلاق. راقبت نفسي جيّداً ولكنني لم أستطع التحكم بها. كنت أراني وأنا أنسابُ نحو الجنون ببطء. ثمّة داعٍ للسخرية هنا، إذ حذّرني الكثيرون من “الانفرادي” وواجهت تلك التحذيرات باستخفاف مُحدِث السجون “أنا معتادٌ على البقاء وحدي”.

بدأت بمخاطبة نفسي قبل أن أبدأ حرفياً بحوار عبثي مع الجدران. مع الأسماء المكتوبة عليها والتواريخ المجاورة لها وكل الشعارات المكررة هنا وهناك. فلان كان هنا، فلان مر من هنا. نصحني أحدهم بأن لا أدوّن إسمي على جدران السجن لأن هذا يعني نذيراً بعودتي إليه. أمسك مسماراً وجدته على حافّة النافذة العالية وأبدأ بحفر اسمي وتاريخ اعتقالي.

إلى جانب الباب كانت رسمة لفتاة بملامح آسيوية، أخذت أتساءل عن سبب رسمها بهذه الطريقة، كانت تشبه الفتيات في ألعاب الأتاري القديمة أو في مسلسلات الأنمي مثلاً. أتخيّل أن شعرها سيكون أحمر اللون إذا توفرت لراسمها الأدوات الكافية. أو أنها رُسمت على يد فنان فاشل بكل بساطة فخرجت معه فتاة آسيوية من عصر بدايات الديجيتال. سمّيتها توكوموري.

أبدأ بالغناء.. “هدّي يا بحر هدّي.. طوّلنا في غيبتنا.. ودّي سلامي ودّي.. للأرضّ اللّي ربّتنا” ثم أضحك بهستيريّة لأنها كانت الأغنية الوحيدة التي اتذكرها. أزرع المكان مشياً أهذي وأصرخ ثم أصمت وأقفُ ساكناً دون حراك قبل أن أرتمي على الأرض واتقلّب بجنون. صوتي يعلو تدريجياً قبل أن ألمح أحد الجنود من فتحة الباب ينظر ببلاهة. “كلّه بسيدر؟”. مرّة أخرى هذا السؤال الأحمق، من أين يأتون بهؤلاء الجنود، ولماذا بحقّ السماء يفترضُ أنني أتكلّم العبريّة؟

لا ينتظر إجابتي ويرحل سريعاً. أشتمه بأعلى صوتي “يا ابن الزناة”. يعود ليضرب الباب بقدمه ويصرخ بشتائم لم أتعلّمها بعد. أقف أمامه بصمت غريب، أتأمل وجهه البني، كانت المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى ملامحه الهنديّة. كنت مندمجاً في تفاصيله لدرجة كبيرة وقد لاحظَ ذلك. هل هو هندي بالفعل؟ وماذا يفعل هنا، ابن الزناة؟ يقول بلكنة إنجليزية ركيكة “وات داز يو وانت بريزونر؟” أضحك بصوت عالٍ وأقول له “هندي.. كنت أعلم أنّك هندي”.

لا يهم، فلم يكن عليّ استفزازه لأن صنبور المياه معطّل ولن أستطيع استخدام الماء إلا بعد إصلاحه عدا عن عدم وجود ورق للمرحاض وهذه مشكلة أخرى. ليس عليّ التفكير طويلاً في كل هذه التفاصيل، تمالك نفسك يا فتى لم يمر نصف يوم بعد. لم أستطع سوى تذكّر مقولة واحدة لفان جوخ “هذا البؤس سيدوم إلى الأبد”. أرجوك، توكوموري، أخبريني أنني على خطأ.

SHIKMA_b
المعبار

“بتهون بتهون.. عمر السجن ما طال”

السجن هو البوسطة. تلك العربة الكريهة ياه كم تمتص من روحك وشيئاً من صمودك في كل مرة تركبها. الانتقال بين السجون في نظام عجيب يشبه الترحيلات ينهكك نفسياً وجسدياً. تتحرّك في مسارات مرسومة بدقّة، أنت في المجتمع ولكنك لا تحتك به، على مقربة من كل شيء ولكن لا تراه. اتعلّق في النافذة العلوية وأشاهد أماكن في فلسطين لم أحلم برؤيتها.

من زنزانتك، يتم تقييدك من يديك ومن قدميك، وإن كان السجّان وضيعاً يقوم بإحكام إغلاقها عليك. هذه تفاصيل صغيرة ذات تأثيرات كبيرة. وفي عربة الترحيلات وبعد أن تدور بك نصف مساحة فلسطين التاريخية دون أن تعلم بالضرورة وجهتك القادمة سيكون بإمكانك الالتقاء مع مئات من السجناء الآخرين في الأماكن المؤقتة التي سوف تبيت فيها لمدة ليلة والتي تسمى “المعبار”.

في المعبار يمكنك رؤية صديق عن طريق الصدفة أو السماع عنه في أضعف الاحتمالات. أن ترسل سلاماً إليه أو تستقبل منه واحدا. قد تقف وراء حديد غرف الأقفاص- كما يطلق عليها الأسرى وتشاهد بعينك عشرات الأطفال دون سن الرابعة عشر يتم اقتيادهم إلى عربات الترحيلات. بعضهم يبدو عليه الحزن وآخرون مذعورين وقلة يكونون غير مبالين. الصنف الأخير هم من كانوا يصرّون في كل مرة على تهريب السجائر داخل البوسطة واشعالها، لا لشيء ولكن لتمرير الوقت في تحدّ ما للسجان. يبعث المشهد شيئاً من الصدمة إلى داخلك تجتاحك فتصير عاجزا عن فهم ما يحدث من حولك. داخل السجن، تشعر بأن البلد كلها رهن الاعتقال، وخارجه تشعر بأنها تجلس على المقاهي.

ذات مرّة أعادوني من المحكمة وقررت وقتها أن اعدّ الأبواب التي يغلقونها عليّ، واحد اثنان ثلاثة سبعة. سبعة أبواب حديدية ضخمة تشعر بعدها بأنّك لن تخرج من هنا إلّا بأعجوبة. بدأت مؤخراً بجمع ورق المحاكم من الأسرى الآخرين، الورق الذي لم يعد يعني شيئاً لهم واستخدمه في تدوين سريع لما أشعر به. كانت أقسى الأفكار التي استولت عليّ هي فكرة الوداع، وكفاشل في توديع الآخرين أجد نفسي اليوم محاطاً بكم هائل من الوداعات. فمع كميّة الانتقالات الكبيرة التي تحدث هذه الأيّام أشعر بأن كل أسير ينقلونه هو أخ لي، هناك نوع من الرجال لا يمكنك أن تجده إلّا في السجن وما أن تتعرف عليهم، فعليك أن لا تعتاد على وجودهم. كانت هذه القاعدة الثالثة لحياة أقل إنهاكاً داخل السجن.

“عوفر والمسكوبيّة..

والسجن اللّي في الصحرا”

بعد ليلة من انقطاع مرير للسجائر، كنّا قد شارفنا على الجنون. يمر الوقت ببطء شديد، وأحيانا بسرعة لا نلتقطها. لا مقاييس لحساب الزمن أو مراقبته. ذات مرّة سألت عن الساعة فجاءني الجواب “قبل العدد المسائي بنصف ساعة”.

كنّا نجلس كلٌّ يفكّر في حمله الذي جاء به على ظهره إلا شخص واحد. وقف (علي) فجأة كما هو معتاد ويبدأ هذه المرّة بالغناء: “سجّان أبوك يا سجن.. ومن حدّد أبوابه… واللي ما عنده حزن يبكي ع شبابي..”

يقاطعه أحمد، شاب عنيد يجيد العبرية من سكّان مدينة أريحا، قصير القامة لكنه يتمتع بقوة بدنية عالية، يخاطبه بنبرة خافتة دون أن ينظر إليه: “ومفارق أحبابي..”. كان أحمد سريع الشعور بالملل أحياناً، وفي أحيان أخرى كان معطاءا إلى درجة لا تصدّق، ما أن يرتاح لأحدهم حتى يفتح له أبواب قلبه. يتوقف “علي” عن الغناء وينظر إلى أحمد بينما لا تزال يده اليمنى مرتفعة في وضعية الغناء كما هي “مالك.. شو قلت؟”

يستمر أحمد في التحديق في قاعدة السرير الذي يعلوه بينما هو مستلق على ظهره ويعبث بورقة بين أصابعه: “سجّان ابوك يا سجن (ومفارق احبابي).. مش (ومن حدّد أبوابه).. من وين جايبها هاي؟؟”. يرمش علي مرّتين قبل أن ينزل يديه ويفتح فمه قليلاً وكأنّه يفكّر فيما يود قوله الآن، بدا لي وكأنه على وشك ارتكاب جريمة. ليس علي من النوع الذي يمكن إحراجه بسهولة، كيف من الممكن التسبب بالإحراج لشخص يعترف بعدم إيمانه بوجود الله داخل مكان يدّعي فيه الجميع العفّة والأخلاق كالسجن؟

– يا أخي أنا بدي ياها (حدّد أبوابه)، شريكي انت؟ تعال غنّي محلّي.

– محدّش طلب منك تقوم تغنّي أصلاً.

– طيب.. الحق مش عليك.. عموماّ ببقى ابن كلب إذا حدا بطلب مني سيجارة وبعطيه من هان ورايح. كل واحد يجيب سجايره لحاله.. ابويا ما بعطيه سجاير هلقيت.

مرّت عشر دقائق من الصمت قبل أن يبدأ علي بتوزيع السجائر على الحاضرين، كل ثلاثة يدخنون من سيجارة واحدة. يدخّن أحمد وهو يضحك “حبسة ولمسة والسيجارة بتلف على خمسة” ضحكنا وبالغنا كثيراً في الضحك ولم نتوقّف حتّى أدمعت أعيننا. وحين انتهينا من التدخين صمت الجميع، وفي لحظتها راودني شعور قاس بأن دموع الضحك تلك لم تكن إلا دموع حزن عميق… حزن لا يقف على حدود البكاء.

  1. البوسطة هي سيّارة نقل الأسرى وتُستخدم بشكل أساسي لنقلهم من وإلى المحكمة أو أثناء التحرك بهم من سجن إلى آخر. تحتوي في داخلها على غرف ضيقة للغاية ومظلمة جداً تشبه القبور. يبقى الأسير بداخلها لمدة طويلة تصل أحياناً إلى أكثر من 6 ساعات. في تجربتي الأولى شعرت بأنني على وشك الموت اختناقاً، وكانت هذه اللحظة التي عرفت فيها أنّي أعاني من رهاب الأماكن الضيّقة.  

  2. النحشون هو الجهاز المسؤول عن نقل الأسرى، اشتُهر أعضاؤه بسمعتهم السيّئة وطريقتهم الفجّة في التعامل مع الأسرى وهم أحد ثلاثة أجهزة تشرف مباشرة على الأسير الفلسطيني إلى جانب جهاز الشاباص وجهاز الشاباك.

  3. صهر الوعي: أو إعادة في تعريف التعذيب. دراسة لوليد دقّة عن الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

  4. مقطع من ختام قصيدة “بيروت” للشاعر الفلسطيني محمود درويش. كنت قد زرت ضريحه قبل عشرة أيّام من اعتقالي، وكانت المرّة الأولى التي أدخل فيها متحف درويش كزائر. وقفت أمام ضريحه، وعبر الهاتف المحمول أخذت أستمع للقصيدة كاملة قبل أن يحضر حارس المكان ويطلب مني اخفاض مستوى الصوت.

فكرة واحدة على ”مذكّرات من دفتر مسروق.. ليالي السجن الأولى

  1. من كبر الوجع اللي بالكلام ما قدرت أقرأه مع بعض
    قسمته أجزاء أجزاء

    إعجاب

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.